الجلوس على الطاولة- استراتيجية إيران التفاوضية لإعادة تشكيل الواقع السياسي

المؤلف: د. باسل حسين09.04.2025
الجلوس على الطاولة- استراتيجية إيران التفاوضية لإعادة تشكيل الواقع السياسي

في دوامة السياسات الدولية المعقدة، حيث تتلاقى الطموحات مع العقبات وتتعارض المصالح مع القيم الأساسية، لا يُعتبر التفاوض دومًا وسيلة لإنهاء الخلافات، بل يتحول أحيانًا إلى ميدان لإدارة التوازنات المتغيرة وترقب التحولات الجذرية في هيكل القوى.

من هذا المنظور الثاقب الذي أرساه خبراء مدرسة هارفارد للتفاوض، وعلى رأسهم روادها المتميزون روجر فيشر وويليام يوري وبروس باتون، تظهر (إستراتيجية الجلوس إلى الطاولة) ليس فقط كأداة، بل كهدف جوهري بحد ذاته.

فالحضور التفاوضي المستمر يصبح شكلًا من أشكال تثبيت الوجود السياسي، وتجديد القدرة الإستراتيجية، في عالم تسوده لغة الرمزية بقدر ما تحكمه النتائج المادية المباشرة.

ولا شك في أن الدول عندما تتبنى هذا النهج، كما فعلت إيران ببراعة ملحوظة قبل وبعد توقيع الاتفاق النووي السابق مع مجموعة 5+1، فإنها لا تعول على حل سريع، بل على عملية استنزاف تدريجية للمناخ الدولي وللخصوم على حد سواء، مرتكزة على فرضية مفادها أن الزمن نفسه يعتبر حليفًا إستراتيجيًا قادرًا على إعادة تشكيل مواقف الخصوم، وتقويض جبهات الضغط الداخلية والخارجية مجتمعة.

وهكذا بدت إيران خلال فترة التفاوض التي امتدت لما يقرب من واحد وعشرين شهرًا، لا كطرف يسعى إلى خاتمة تفاوضية تقليدية، بل كفاعل يستثمر في عملية التفاوض ذاتها، ويعيد عبر كل جلسة، وكل لقاء، وكل بيان، بناء روايته كطرف شرعي لا يمكن إقصاؤه، ويستمد من حضوره الدائم على الطاولة اعترافًا دوليًا يصبح من الصعب تقويضه لاحقًا، حتى مع تغير موازين القوة المادية.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإيراني عقب انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق، والذي أكد فيه أن الولايات المتحدة قد غادرت الطاولة، بينما بقيت إيران جالسة عليها، لا يمثل مجرد موقف دعائي عابر، بل يعكس فهمًا بنيويًا عميقًا لقيمة الوجود التفاوضي في حد ذاته كمعطى إستراتيجي يتجاوز مضمون الاتفاق ومحتواه الملموس.

فالقيمة الحقيقية تكمن في أن (الجلوس على الطاولة)، وفقًا للتحليل المتعمق الذي قدمه ماكس بازerman وهيرب كوهين، يؤسس لواقع تفاوضي يجعل استبعاد الطرف الجالس أمرًا أكثر تكلفة من مجرد استيعابه، ويجبر الخصوم على التعامل معه كضرورة لا يمكن تجاوزها.

وتتعزز هذه الرؤية الإيرانية بشكل أكبر في ضوء التطورات الحالية، فمع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في مطلع عام 2025، حاملًا نفس الشروط الاثني عشر التي أفشلت في السابق أي محاولة للتوصل إلى تسوية مستدامة، أظهرت طهران مرة أخرى قدرتها على تبني نهجًا مزدوجًا يقوم على المشاركة الهادئة في قنوات التفاوض الخلفية عبر مسقط وروما، دون الوقوع في فخ التنازلات المبكرة أو الرهانات اللحظية قصيرة الأمد، مدركة أن مجرد إبقاء مسار التفاوض مفتوحًا، حتى وإن كان غير رسمي، يكفي لإبطاء تأثير العقوبات الجديدة، ويمنحها هامشًا حيويًا للمناورة الإستراتيجية على مستويات إقليمية ودولية متعددة.

وفي حين ركزت لقاءات عُمان على تصميم أطر زمنية محدودة لبناء الثقة من خلال إجراءات رمزية قابلة للإنكار السياسي عند الحاجة، استغلت طهران لقاءات روما لاستكشاف حدود الانفتاح الغربي على مقايضات جزئية، تسمح لها بالاستفادة من تخفيف تدريجي للعقوبات دون المساس بجوهر برنامجها النووي، مستندة في ذلك إلى ما يمكن اعتباره تطبيقًا عمليًا لنظرية الغموض البناء، كما شرحها فيشر ويوري، والتي تقوم على استخدام الغموض المتعمد كأداة لتوسيع هامش التفسير لاحقًا بما يخدم المصلحة الوطنية العليا.

وهكذا تتجلى الإستراتيجية الإيرانية في أحدث صورها، لا كمجرد رد فعل ظرفي، بل كامتداد طبيعي لنهج طويل الأمد يعتمد على استثمار التفاوض كعملية لتأبيد الشرعية السياسية، وإعادة تشكيل العلاقات الدولية بطريقة تمنع التهديدات وتوسع فرص المناورة، دون الانزلاق في استنزاف داخلي أو مواجهة مباشرة مع القوى العظمى، معتمدة بذلك على فهم عميق لمعادلات الضغط والإغراء، ومستغلة بذكاء كل تناقض بنيوي بين مواقف القوى الغربية، انسجامًا مع القاعدة الذهبية التي أرسها فلاسفة التفاوض الواقعيون، والتي تنص على أن الانتصار الحقيقي لا يكمن في فرض الإرادة المطلقة، بل في جعل الخصم يتصرف وفقًا لما تقتضيه مصلحة الطرف الآخر، دون أن يدرك بالضرورة حدود هذا التنازل.

وبينما تتقاطع اليوم رؤيتان متعارضتان على طاولة المفاوضات، يبدو المشهد أقرب إلى مواجهة رمزية بين حائك السجاد الإيراني، الذي لا يعد خيوط المفاوضات إلا وفق إيقاع الزمن الطويل وصبر النساج الماهر، الذي يدرك أن جمال السجادة لا يكتمل إلا ببطء وتأنٍ، وبين تاجر العقارات الأمريكي الذي يرى في الصفقة السريعة تجسيدًا لنجاحه ومرآة لذكائه، فيسعى إلى اختصار الوقت، وتحويل التفاوض إلى صفقة فورية قابلة للانهيار مع أول عقبة.

ومن هنا، فإن الصراع الخفي لا يدور فقط حول بنود الاتفاق وشروطه، بل حول فلسفتين متعارضتين في إدارة الوقت والفرص والرهان على المستقبل، مما يجعل الحسم لصالح أحدهما مشروطًا لا بصلابة الخطاب، بل بعمق النفس الطويل وقدرة كل طرف على تحويل الصبر إلى إستراتيجية فعالة لإعادة تشكيل الواقع التفاوضي لصالحه.

وإذا كان الزمن أداة في يد من يحسن استخدامه، فإن إيران، بمهارة الحائك الصبور، لم تكتفِ بالجلوس على الطاولة، بل حولت وجودها إلى طقس تفاوضي عميق أشبه بالدعاء الصامت الذي ينسج الكلمات بخيوط الاحتمال، ويلون الانتظار بألوان الحذر والتروي.

لقد استطاعت بهذا الدعاء الممتد أن تعقد الصفقة، ليس عن طريق كسر القواعد أو تحدي الإرادة، بل من خلال تكييف الزمن لصالحها حتى أصبحت مواقف الآخرين تتغير قبل أن تتغير مواقفها.

وربما، كما أشارت بعض ملامح المشهد الحالي، سينعكس نفس الخداع الناعم على الولايات المتحدة نفسها، التي اعتادت على إبرام الصفقات بمعايير السرعة والإنجاز، لتجد نفسها، مرة أخرى، ضحية لعبة أبطأ من أن تراها، وأعمق من أن تقرأها بنصوص الاتفاقات وحدها.

ففي التفاوض، كما هو الحال في نسج السجاد، لا ينتصر من يسرع، بل من يصبر، ومن يحسن إخفاء هدفه تحت طبقات لا تتكشف إلا عندما تفقد المعركة مغزاها، ويصبح الزمن نفسه أداة استحواذ صامت على نسيج المصير.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة